من يقرأ التاريخ الإنساني بوعي وحياد، يدرك أنه لا يعبأ بالضعفاء، ولا ينتظر المتخلفين عن ركب النهوض، بل يزيحهم عن طريقه، ولو كانوا ضحايا.
هذا منطق قاسٍ، لكنه واقع لا يرحم، والتاريخ الحديث، لا سيما في الشرق الأوسط، يُثبت أن الأمم التي لا تحمي ذاتها من التآكل الداخلي تصبح عُرضة للاستهداف، والتجاوز، وربما الزوال.
أولًا: الحالة الفلسطينية الراهنة...
تآكل داخلي وعجز مركّب ..!
الحالة الفلسطينية اليوم في واحدة من أشد لحظاتها ضعفًا وهشاشة، العدوان الإسرائيلي الممنهج على قطاع غزة، والتمدد الاستيطاني في الضفة الغربية، لم يُقابل بوحدة وطنية أو نهوض سياسي، بل بتعمق الانقسام وتكلس المشهد الداخلي.
سلطتان متوازيتان تقتسمان الجغرافيا، ونظام سياسي مأزوم بلا أفق أو شرعية جامعة، ونخب مشتتة تائهة بين التبرير والصمت.
إن قطاع غزة يتعرض لإبادة موصوفة، وسط دمار شامل وسقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، فيما الضفة الغربية تغرق في الفوضى الأمنية والاغتيالات والاعتقالات، والقدس تُهوَّد في وضح النهار.
ورغم هذه الكوارث، لا تزال الفصائل تتصارع على التمثيل، وتغيب عنها الجرأة في اتخاذ قرارات بحجم التحديات.
ثانيًا: النخب والفصائل...
غياب البوصلة وشلل الإرادة ...
النخبة الفلسطينية، بكل مكوناتها، لم ترتقِ إلى مستوى اللحظة التاريخية، فالانقسام الذي رسخته حركة "حماس" منذ عام 2007، وما تبعه من مؤسسات موازية وتحالفات متضاربة، لم يُنتج إلا مزيدًا من التآكل الداخلي والعزلة السياسية. أما الفصائل الأخرى، فقد فقدت فعاليتها الميدانية، واكتفت بإدارة الانقسام أو التنظير له، وكأن الدم الفلسطيني خارج الحسابات.
وقد انعكست هذه الأزمة على المشروع الوطني برمّته، الذي تحوّل من مشروع تحرر جامع إلى نزاع سلطوي وانقسام جهوي، لا صوت فيه يعلو فوق المصالح الفئوية والرهانات الخارجية.
ثالثًا: تجاوز الإرادة الفلسطينية...
الإقليم والعالم يعيدان ترتيب المنطقة ....
أمام هذا الضعف المزمن، لم تعد القوى الإقليمية والدولية ترى في الإرادة الفلسطينية وزنًا يُحسب. فمشاريع التسوية والتطبيع تُمرر دون مشاورة الفلسطينيين، والقرارات الكبرى بشأن مستقبل غزة أو الضفة تُصاغ في عواصم غير رام الله وغزة ، حتى الحرب الجارية على غزة، بكل فظائعها، لم تنجح في فرض وزن سياسي فلسطيني موحد على طاولة المفاوضات، بل زادت من تهميشه.
لقد أصبح من السهل على أطراف الإقليم أن تتعامل مع الحالة الفلسطينية كعبء، أو كملف أمني، وليس كقضية تحرر تستحق الدعم والمشاركة، أما المجتمع الدولي، فرغم إدراكه للعدوان الإسرائيلي، لا يجد في القيادة الفلسطينية عنوانًا قويًا أو موحدًا يمكن البناء عليه أو دعمه بجدّية.
رابعًا: من الهامش إلى التهديد الوجودي ....
ما تواجهه فلسطين اليوم لا يُهدد الحاضر فحسب، بل الوجود السياسي والمعنوي للقضية برمتها ، فمع تآكل الشرعيات، وتفكك المؤسسات، واحتكار القرار، وانفصال القيادات عن معاناة الشارع، تصبح القضية عرضة لإعادة التشكيل من خارجها، بل ولفرض حلول تتجاوز شعبها.
وهنا تكمن الخطورة:
أن تتحول فلسطين من قضية مركزية في الضمير العربي والإنساني، إلى ورقة تفاوض أو مشروع إغاثي، وتُختزل نضالات شعبها في تقارير إنسانية لا تحمل مضمونًا سياسيًا أو حقوقيًا.
خامسًا: ما العمل؟
دعوة إلى صحوة وطنية شاملة ......
ما نحتاجه اليوم ليس فقط مصالحة بين فصائل، بل مصالحة مع الفكرة الوطنية ذاتها، مع جوهر المشروع الفلسطيني الذي وُلد من رحم المعاناة والكفاح، يجب العودة إلى بناء وحدة وطنية على أساس شراكة حقيقية، تضمن تمثيل الكل الفلسطيني، وتُعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها المظلة الجامعة، لا مجرد مؤسسة تُدار بقرارات فوقية.
إن الخروج من المأزق يبدأ بإعادة الاعتبار للمؤسسات، وتحرير القرار السياسي من الارتهان، واستعادة الثقة الشعبية من خلال انتخابات حرة، وبرامج سياسية واضحة، وموقف وطني جامع يُعلي صوت الشعب على حساب التنظيمات.
التاريخ لا ينتظر ....!
إن التاريخ لا يرحم المتقاعسين، ولا ينتظر المنقسمين.
وإذا لم تلتقط القيادة الفلسطينية لحظة الحقيقة، فإنها ستُقصى من مسار القضية، وسيتولى الآخرون إعادة تشكيل فلسطين على طريقتهم، لا على طريقتها.
آن الأوان لوقفة صادقة مع الذات، قبل أن نصبح خارج الزمن، وخارج الجغرافيا، وخارج التاريخ.
د.عبدالرحيم جاموس
17/5/2025 م
Pcommety@hotmail.com